"الحمد له وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
شعبي العزيز..
في غمرة مشاعر اللوعة والحزن التي ما زالت آثارها عميقة في نفوسنا جميعا لفقدان أب الأمة والدنا العظيم جلالة الملك المغفور له مولانا الحسن الثاني طيب الله ثراه تحل ذكرى ثورة الملك والشعب هذه الثورة التي قادها بمعيتك في كفاح مرر لتحرير المغرب واسترجاع استقلاله جدنا المنعم مولانا محمد الخامس قدس الله روحه.
لقد خاض رضوان الله عليه جهادا متميزا في واجهات متعددة ومتكاملة كانت في طليعتها الواجهة المتمثلة في النضال السياسي الذي بلورته مواقف البطولة التي كانت له في مواجهة أعنف تحديات المرحلة.
أمام هذه المواقف التي لم تكن تزيد إلا ثباتا وشجاعة كلما اشتدت الأزمة لم يجد الاستعمار غير التآمر على الشرعية وطلب من رمز الأمة أن يتنازل عن العرش أو ينفى خارج البلاد.
وبإيمان ثابت أبى أكرم الله مثواه أن يقبل حل التنازل الذي اعتبره خيانة للأمانة التي ائتمنه عليها شعبه الوفي وفضل المنفى فكان أن اقتيد مع أسرته الشريفة إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر من 20 غشت 1953 إلى 16 نونبر 1955.
وكان الشعب المغربي المخلص على امتداد هذه الفترة مفعما بروح محمد الخامس الجهادية فأجمع على رفض ما أراد الاستعمار إجباره عليه وصمم بإصرار على متابعة نضاله بالتضحية والفداء حتى يرجع ملك البلاد الذي غدا رمزا لجميع القيم الدينية والمبادىء الوطنية.
لقد كان التجاوب عميقا بين الأمة وقائدها المبعد وهو تجاوب قواها لمقاومة المحاولات التي توسل الاستعمار بها لإضفاء المشروعية على مؤامرته.وكان المغاربة يشعرون في يقين بأن محمدا الخامس - وهو في غربته - كان متربعا على عرش قلوبهم كافة.
شعبي العزيز..
بهذا الروح استمر الكفاح إلى أن عاد الملك البطل إلى أرض الوطن مكللا بالنصر يحمل بشرى انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الاستقلال والحرية ليتابع مسيرة الجهاد من أجل بناء هذا الاستقلال.
وإذا كان الاجل المكتوب قد عجل انتقاله إلى عفو الله ورحمته قبل أن يحقق للمغرب كل ما كان يسعى اليه فان العناية الالهية كانت حنوة على هذا البلد حين سلمت الامر لخير من يحمل الامانة ويكمل الرسالة وارث سره ورفيقه في النضال جلالة والدنا الماسوف على رحيله مولانا الحسن الثاني فرعى جميع اللبنات التي وضعها جدنا المقدس وثبت كيانها ثم انطلق بها في مسيرات للتشييد والتوحيد بوأ المغرب بها مكانة متميزة بما احدث من نهضة شاملة اتاح له بها ان يكون في كفاح مستمر لمواجهة كل الازمات والتحديات وحل مختلف القضايا والمشكلات وعلى راسها قضية الوحدة الترابية التي عالجها بحكمة وروية في التزام بقرارات الامم المتحدة مع تقديم الدعم الكامل لما ينجح الاستفتاء التاكيدي في أقاليمنا الجنوبية.
وقد توج - رحمه الله - هذه المكانة المرموقة التي اصبحت للمغرب بما أبدع من فكر سياسي جديد ومتطور تجلى في اقامة ملكية دستورية تعتمد مشاورة الامة واشراكها في تحمل المسؤولية عبر مجالس منتخبة ومن خلال لامركزية جهوية مع الوعي التام بما للكل من واجبات وحقوق.
واذا كان جلالة الملك الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته قد رحل إلى جوار ربه فاننا نحن محمد السادس قد خلفناه في خدمتك - شعبي العزيز - وخدمة المغرب وسنبقى على النهج الحسني سائرين تمسكا ببيعة الامامة الشرعية التي تطوق عنقنا وعنقك موصولة بما سبقها على امتداد ازيد من اثني عشر قرنا موثقة السند بكتاب الله وسنة رسوله الكريم ومشدودة العرى إلى الدستور المغربي الذي ينص على ان الملك أمير المؤمنين والممثل الاسمى للامة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها وعلى انه ضامن حمى الدين والبلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحق وعلى أنه الساهر على احترام الدستور وعلى أن له صيانة الحقوق وحريات المواطنين وعلى ان شخصه مقدس لاتنتهك حرمته.
لذا فاننا تقديرا منا لهذه المسؤوليات الجسيمة التي تفرضها علينا الامانة العظمى وتشبثا بالمقدسات الدينية والوطنية وحرصا على تدعيم المؤسسات وتقويتها ندعو الجميع بحزم وصرامة وبدون لين او هوادة إلى لزوم مقتضيات دولة الحق والقانون في إطار الحريات التي يضمنها الدستور للافراد والهيئات وفي نطاق القوانين الاجرائية التي تضبط ممارسة هذه الحريات والتمتع بسائر الحقوق والتي يفضي خرقها او الاخلال بها إلى التعرض لما تقتضيه القوانين الجاري بها العمل.
شعبي العزيز
لقد حقق المغرب في العهد الحسني الزاهر مكاسب جليلة في هذا المجال المتعلق بالحقوق تحفزا من ارادة والدنا المنعم المعتمدة على المرجعية الاسلامية التي كرمت بني ءادم والتي حثت على الانضمام إلى الاعلان العالمي لحقوق الانسان وما تفرغ عنه من مواثيق دولية.
وزاد - نور الله ضريحه - فعمل على تنمية هذه الحقوق وتوسيع دائرتها سواء على الصعيد التنظيمي او اقامة المؤسسات وكذا على مستوى النصوص التي تحميها والاجراءات التي اتخدت لصالحها وما إلى ذلك مما يصعب حصره او التمثيل له وهو ما اهل المغرب لكي يعتلى موقعا مرموقا بين الدول المتقدمة في هذا المضمار.
وفي هذا السياق "احدثنا هيئة تحكيم مستقلة إلى جانب المجلس الاستشاري لحقوق الانسان بهدف تحديد تعويض ضحايا واصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء والاعتقال التعسفي" واصدرنا تعليماتنا بان تشرع هذه الهيئة في مباشرة اعمالها.
وسعيا منا حثيثا إلى المحافظة على الرصيد الغنى وامداده وبرغبة منا عفوية تلقائية وايمان راسخ عميق بضرورة تمتيع كل فئات شعبنا بالحقوق التي تضمن لها العيش الكريم والحياة الرغيدة اولينا عنايتنا ونحن ولي العهد إلى القضايا الاجتماعية التي تهم المواطنين كافة مدنيين او عسكريين مع رعاية خاصة للفئات التي تشكو الحرمان او تعاني القهر.
ان تامل هذا الواقع ليجعلنا نتساءل في ألم وحسرة .. كيف يمكن تحقيق التنمية الشاملة وعالمنا القروي يتخبط في مشاكل تضطر سكانه إلى التخلي عن الارض التي جعلها الله ذلولا للاسترزاق منها والهجرة إلى المدن في غيبة استراتيجية تنموية مندمجة قائمة على تنظيم الانشطة الفلاحية وغيرها والاهتمام بالسكن والتعليم وتحسين مستوى التجهيزات الاساسية والحد من الهجرة بوضع خطة تراعي النهوض بالجماعات القروية وانشاء اقطاب جديدة للتنمية في المراكز المحيطة بالحواضر وكذا تدبير التقلبات غير المتوقعة كالجفاف وما اليه.
وكيف يراد ادراك التقدم العلمي ومواكبة العالم المتطور وافواج من شبابنا المتعلم والمؤهل عاطلة عن العمل تلقى الابواب مغلقة أمامها دون كسب الرزق بعيدا عن تكوين مناسب يفضي إلى اظهار المواهب والكفاءات وتمكينها من العلم الذي أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يكون نافعا مؤديا للعمل وبعيدا كذلك عن مخطط تتضافر لتطبيقه جهود المقاولات وسائر الفاعلين الاقتصاديين.
وكيف يتصور بلوغ رقى المجتمع وازدهاره والنساء اللائي يشكلن زهاء نصفه تهدر مصالحهن في غير مراعاة لما منحهن الدين الحنيف من حقوق هن بها شقائق الرجال تتناسب ورسالتهن السامية في انصاف لهن مما قد يتعرضن له من حيف او عنف مع انهن بلغن مستوى نافسن به الذكور سواء في ميدان العلم او العمل.
أم كيف يدرك تكافؤ الفرص واتاحتها للجميع اذا كان المعوقون جسديا يهمشون ويبعدون عن الميادين التي هم لها مكونون ومستعدون في حين أن الاسلام - وهو دين التكافل والتكامل - يدعو إلى الاهتمام بالمستضعفين ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع والاخذ بيدهم ليكونوا أعضاء فيه عاملين منتجين.
لسنا نملك عصا سحرية نزعم بها حل جميع هذه المشاكل وغيرها ولكننا عازمون بحزم وعن قريب ان شاء الله على مواجهتها بما نتوفر عليه من امكانيات وبما نملك من طاقات معنوية هي زادنا وعمدتنا وبما يلزم من تعبئة وتضامن وتضحية ومن صدق واخلاص وضمير حي يقظ وهي شروط بدونها لا تكون المواطنة الصالحة ولا يتحقق أي تقدم بل لا يكون الايمان.
وفي هذا الصدد وكما وعدنا في خطاب العرش فاننا سننكب كذلك على ملف التعليم في ضوء مشروع الميثاق الذي انجزته اللجنة الملكية الخاصة للتربية والتكوين وبالعناية التي هو جدير بها لاهميته في اعداد النشء وتاهيل اجيال المستقبل.
وبالعناية نفسها سنتابع سياسة والدنا برد الله مضجعه فيما يتعلق بقضية وحدتنا الترابية مؤكدين التزامنا بقرارات الامم المتحدة ودعمنا للمينورسو والمندوبية السامية لغوث اللاجئين وإمدادنا بكل ما ينجح الإستفتاء التأكيدي في أقاليمنا الجوبية.
شعبي العزيز
في ختام هذا الخطاب الذي نوجهه إليك بمناسة الذكرى السادسة والأربعين لثورة الملك والشعب نود أن نجدد لك ولقواتنا المسلحة الملكية ورجال الدرك والقواة المساعدة وقواة الأمن ورجال الوقاية المدنية عبارات شكرنا على الموقف الوفي والمساندة الصادقة لنا في الفاجعة المؤلمة اللتي حلت بنا وبالوطن لرحيل أبينا كافة جلالة الملك المقدس مولانا الحسن الثاني نور الله ضريحه. ونحرص على أن نؤكد أننا التزاما منا بالميثاق النظالي الذي سلمه لنا والدنا بعد أن تسلمه من جدنا يرحمه الله وإياه ومتابعة للبناء الشامخ الذي أقاماه وتشبثا بالأصرة المتينة التي تشدك إلينا وتشدنا إليك نحيي هذه الذكرى الوطنية المجيدة وسنواصل إن شاء الله إحياءها باعتبارها ذكرى للأمة كلها تحتم علينا على الدوام استحضار أرواح جميع المقاومين للتزود من جهادهم المتفاني والتذكير بما بدلوا من تضحيات كبيرة في شتى الأقاليم ومختلف المواقع مع إشادة خاصة بالعلماء ورجال الفكر والسياسة وطبقة العمال والفلاحين والتنويه بدورهم العظيم في تحرير البلاد ومزيد من العناية بأسرهم والترحم على شهدائهم الأبرار ودعوة العلي القدير أن يجعلهم إلى جانب والدنا وجدنا المكرمين "مع اللذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".
صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".