وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، اليوم الأحد، خطابا إلى لقاء القمة الأولى بين المغرب والاتحاد الأوروبي، المنعقدة حاليا بغرناطة (جنوب إسبانيا).
وفي ما يلي نص الخطاب الملكي، الذي تلاه الوزير الأول السيد عباس الفاسي، الذي يرأس وفد المملكة إلى هذه القمة :
" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآ له وصحبه.
معالي السيد هيرمان فان رومباي، رئيس المجلس الأوروبي
معالي السيد خوصي لويث رودريغيث ثباتيرو، رئيس الحكومة الإسبانية، رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي
معالي السيد خوصي مانويل باروسو، رئيس اللجنة الأوروبية
أصحاب المعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
نود، في البداية، أن نعبر عن فائق تقديرنا وتثميننا للمبادرة الحميدة، التي أقدمت عليها إسبانيا الصديقة، الرئيسة الحالية لمجلس الاتحاد الأ وروبي، لاحتضان أول لقاء للقمة بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي.
إن قمة غرناطة، التي تحمل رمزية قوية، لكونها تنعقد في بلد جار، تجمعه بالمملكة المغربية علاقات متميزة وكثيفة، تكتسي أهمية خاصة بالنسبة للمغرب، اعتبارا للدينامية الجديدة، التي ستضفيها على شراكتنا، وكذا لكونها تتيح الاستثمار الأمثل، لما تشهده بلداننا من تطورات كبرى، وتحولات عميقة.
وفي هذا الصدد، نجدد التعبير عن تهانينا للاتحاد الأوروبي، لاعتماده معاهدة لشبونة; واثقين بأن هذه الخطوة الجديدة والمتقدمة، ستعزز مكانة أوروبا، وتضفي عليها المزيد من الدينامية والقوة والإشعاع الدولي، لمواصلة القيام بدورها الإيجابي والريادي، خاصة على صعيد جوارها المباشر.
ومن جانبها، فإن المملكة المغربية ستظل، على المعهود فيها، وفية لالتزامها بمواصلة بناء علاقات مع الاتحاد الأوروبي، أشد ما تكون متانة وقوة، وأكثر ما تكون تقدما واتساعا.
ولا غرو أن تلتئم هذه القمة في الوقت الذي أخذت فيه هذه العلا قة منحى تصاعديا، بفضل الوضع المتقدم، وفي ظرف أصبح مسارها يتسم بالتوجه بخطى حثيثة، وبكل طموح، نحو مستقبل أفضل، وآفاق واعدة.
وعلاوة على بعده الثنائي، فإن هذا الوضع المتقدم سيتيح للمغرب والاتحاد الأوروبي، أن يضعا سويا، تصورا استباقيا لمعالم حكامة أورو-متوسطية متجددة، أكثر طموحا، وأوثق تضامنا.
وفي هذا السياق، نجدد مساندتنا ودعمنا للاتحاد من أجل المتوسط; موقنين أن هذه المبادرة، بمجرد اكتمال وسائل تفعيلها، ستمكن من إبراز كل ما تزخر به المنطقة المتوسطية من مؤهلات، بل ومن تقديم الأجوبة المناسبة على التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتعددة، التي يواجهها الفضاء الأ ورو-متوسطي.
وبالموازاة مع مشاريعه ذات البعد الشامل، فإن الاتحاد من أجل المتوسط مطالب بتطوير أشكال من "التعاون المعزز"، على الصعيد الإقليمي الفرعي، ولا سيما على مستوى اتحاد المغرب العربي، الذي يتوافر على إمكانات واعدة، في هذا المجال بالذات.
وفي هذا الصدد، فإن المغرب يؤكد التزامه بمواصلة العمل، من أجل تفعيل البناء المغاربي، على أسس الجدية والمصداقية، مجددا حرصه القوي على تشييد مستقبل مشترك، يقوم على احترام مستلزمات السيادة والحوزة الترابية للدول، ومراعاة متطلبات حسن الجوار.
كما يدعو الجهات الأخرى إلى التجاوب مع نداءات مجلس الأمن، والالتزام بإيجاد تسوية سياسية للخلاف المفتعل بشأن وحدته الترابية، على أساس المبادرة المغربية بتخويل جهة الصحراء حكما ذاتيا موسعا، في نطاق سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية.
إن طموح المملكة المغربية في الإسهام في الارتقاء بالمنطقة المتوسطية، إلى فضاء جيو-سياسي متجانس وقابل للحياة، لا يوازيه إلا الضرورة الملحة لإطلا ق شراكة استراتيجية حقيقية بين إفريقيا وأوروبا; عمادها المصالح المتبادلة، والتحديات المتقاسمة، وبناء مستقبل مشترك.
فالتداخل المتزايد للمصالح الجيو-سياسية والأمنية بين القارتين، وكذا كثافة المبادلات الاقتصادية والثقافية والإنسانية; كلها عوامل تستلزم بلورة منظومة تشاركية خلاقة، تأخذ بالاعتبار الخصوصيات الجيو-سياسية لكل جهة من مناطق القارة الإفريقية.
وفي هذا الصدد، فإن الأجندة الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، لكل من منطقة الساحل والصحراء، والواجهة الأطلسية، تتطلب على وجه الخصوص، مقاربات تشاورية وتشاركية ومتضامنة.
أصحاب المعالي والسعادة،
إن المغرب، الذي يشاطر الاتحاد الأوروبي نفس التشخيص، لشتى التحديات المطروحة، على الصعيدين المتوسطي والإفريقي، سيستمر في النهوض بدور الفاعل المشارك، الذي ما فتئ يضطلع به، والذي يؤهله للقيام به، ليس فقط موقعه الاستراتيجي كملتقى بين القارتين، وإنما أيضا تواجده على واجهتين بحريتين، وانفتاحه الطبيعي على مختلف هذه الفضاءات.
بيد أن بلوغ هذا الهدف، وانتهاج المسار الواعد المفضي إليه، يتطلب إيمانا عميقا، واقتناعا راسخا، وعملا إرادويا. وعلى أساس هذه المبادئ السامية، وما سواها من القيم المثلى، فإن المغرب عاقد العزم على توطيد توجهه، سواء لتحقيق تقارب أمثل مع الاتحاد الأوروبي، أو للسير إلى أبعد مدى ممكن، لإرساء علاقة بناءة مع هذا الاتحاد.
وإننا لنسجل، ببالغ الاعتزاز، أن شراكتنا في كافة تجلياتها وأبعادها ومجالاتها، تتطابق وما نبذله، بإيمان وعزيمة، من مجهودات جادة ودؤوبة، للمضي قدما في ترسيخ دعائم مجتمع منفتح، ديمقراطي وتضامني.
كما أنه من دواعي ارتياحنا، أن يتلاقى توجه المغرب الأكيد في البروز كاقتصاد صاعد، مع طموحه الاستراتيجي، لبناء فضاء اقتصادي مشترك مع الاتحاد الأوروبي.
وتحقيقا لهذا الهدف الأسمى، فإن المغرب، إذ يتطلع إلى ما هو أرحب من مجرد إقامة منطقة للتبادل الحر; ليدعو إلى الرفع من حركية تدفق الاستثمارات، وتعزيز أساليب التكامل والتجانس في المجالين الزراعي والصناعي، وإعادة انتشار الأنشطة الخدماتية، وتطبيق سياسات مشتركة في مجالات البحث من أجل التنمية، واقتصاد المعرفة.
ومن الضروري أن يتطلب هذا التوجه تفعيلا سريعا وناجعا، لكافة الالتزامات المتفق عليها من قبل الطرفين. وفي هذا الصدد، ونظرا للأهمية التي تكتسيها الاتفاقية الزراعية الجديدة المبرمة مؤخرا، وللفرص التي تتيحها، فإن المغرب، إذ يؤكد حرصه على التعجيل بأجرأتها، وفاء بتعهداتنا المشتركة، فإنه يأسف للتأخير الحاصل في دخولها حيز التنفيذ.
وإن إقامة فضاء مشترك بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي، في مجال اقتصاد المعرفة، لمن شأنه أن يشمل عمليا الرهانات الجديدة، الطاقية والبيئية، وذلك بتشجيع البحث العلمي، في مجال الطاقة الإيكولوجية، والطاقات النظيفة، والاقتصاد الأخضر، والبحث في مجال الأرصاد الجوية، والتنوع البيولوجي، وتحلية مياه البحر، والوقاية من الطوارئ، كالفيضانات والجفاف ...
وفي هذا الصدد، فإن مشروع الطاقة الشمسية، الذي أعطينا انطلاقته، في شهر نونبر المنصرم، يعكس رؤية واضحة وطموحة، في مجال الطاقات المتجددة والتنمية المستدامة. وهنا نؤكد أن المغرب يأمل أن يستكشف مع الاتحاد الأوروبي، كافة الفرص التي ستتيحها المشاريع ذات الصبغة الجهوية، كمشروع "ديزيرتيك" ؤمsمْtمك، وذلك لإرساء قواعد سياسة طاقية أورو-متوسطية مضبوطة، آمنة ومستدامة.
كما يتعين انتهاج نفس المقاربة التشاورية والتضامنية، متى تعلق الأمر بالتعامل مع مسألة الحركية الإنسانية بين المغرب وأوروبا.
وفي هذا المضمار، فإن المغرب، من منطلق مبادئه ومقوماته الدستورية والهوياتية والسوسيولوجية، ليعرب عن تقديره واهتمامه بهذا الوجه الجديد من المواطنة، الذي بدأ يتشكل بين ضفتي المتوسط، ويدعو لمد يد العون للمهاجرين، لتمكينهم من اكتساب توازن هوياتي، من شأنه أن يعزز الهوية الأصلية للمهاجر، دون حمله على التنكر لها، أو التخلي عن أصوله، أو الانسلاخ عن جذوره.
وتظل الغاية التي ينبغي أن ننشدها جميعا، هي النهوض بأوضاع المهاجرين، لتمكينهم من الاضطلاع بدور الفاعل المنخرط في الإسهام في تعزيز المبادلات بين ضفتي المتوسط، والرافعة القوية لتجسيد تلاقح الثقافات، وتمازج وتعايش الأجناس البشرية.
وعملا على تجلية هذا البعد الثقافي، فإن الجامعة الأورو-متوسطية بمدينة فاس، سوف تسهم بشكل فاعل، في بناء فضاء موحد للتعليم العالي والبحث.
وإجمالا، فإن الاعتزاز والارتياح لما تحقق من مكاسب هامة، ورصد الآفاق الواسعة، المفتوحة أمام الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، لا ينبغي أن يحجب عنا ضرورة توجيه هذه الشراكة، نحو تحقيق غايات أسمى وأكثر طموحا.
ومن هذا المنظور، فقد بات من اللازم أن يكتسب الوضع المتقدم، الذي حددنا معالمه، في مارس 2000، كل المقومات القانونية والمؤسساتية والاتفاقية والتعاقدية، التي أصبح جديرا بها. ونعني بذلك الارتقاء به إلى مستوى شراكة متميزة.
وإن المغرب، الذي ما فتئ يولي علاقته مع الاتحاد الأوروبي مكانة رفيعة، ليؤكد التزامه الراسخ بتعزيز ومواصلة هذه الدينامية المثلى والواثقة والمثمرة، بالنسبة للطرفين، والتي ظلت على الدوام، تميز علاقة بلادنا بأوروبا.
كما أن المغرب يعتبر أن هذه المرحلة النظامية الجديدة، في علاقته بالاتحاد الأوروبي، مدعوة لأخذ شكل "شراكة متميزة"، كفيلة بالاستثمار الأمثل للمكاسب والإنجازات المحققة، خلال الفترة الأخيرة، وجديرة بتقديم إجابات ملائمة وطموحة، لما تطرحه المستجدات الاقتصادية والإنسانية والاستراتيجية، لكل من المغرب والاتحاد الأوروبي.
فبلادنا تتطلع إلى تدشين عهد جديد مع هذا الاتحاد، من خلال هذا الإطار من العلاقات، الذي من شأن بلورة وتفعيل أوفاقه التعاقدية، ومقومات أجرأته، أن تضفي المزيد من الزخم والبعد الاستراتيجي، على المسار المستقبلي للعلاقة القائمة بيننا.
وإن من شأن العهد الجديد، والأفق المفتوح، في علاقة المغرب بالاتحاد الأوروبي، أن يتيح لهما العمل، بكل عزم وطموح، وبرؤية واضحة، للاستفادة من الفرص والإمكانات الجديدة، التي تفتحها أمام شراكتهما معاهدة لشبونة، وذلك لبلورة وإرساء منظومة شراكة جديدة، تكفل للمغرب تعزيز قربه من الاتحاد الأوروبي.
وبقدر ما سيفرزه هذا الأفق من نتائج إيجابية، على مستقبل العلاقة القائمة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، فستكون له نفس النتائج على الصعيد الإقليمي، من خلال الآفاق الواعدة، التي سيفتحها، باعتباره نموذجا رائدا للتقارب بين الاتحاد الأوروبي والشركاء المتوسطيين.
أصحاب المعالي والسعادة،
إننا نتيمن بانعقاد هذه القمة الأولى من نوعها، بمدينة غرناطة العريقة، إحدى الشواهد الخالدة للتفاعل التاريخي والثقافي والإنساني، بين ضفتي المتوسط، ولتمازج الحضارات المغربية والإسبانية والأوروبية; متطلعين للارتقاء بنظام الوضع المتقدم في علاقة المغرب بالاتحاد الأوروبي، إلى شراكة متميزة.
وهذا ما يقتضي أن يكون التقدم مشتركا، وليس أحادي الجانب، وإنما يسير على سكة متوازية. فمن جهة، فإن المغرب يتقدم نحو أوروبا، بما نقوده، بإرادة سيادية وطنية، ووفاء لالتزاماتنا بترسيخ بناء مجتمع ديمقراطي تنموي، معتز بهويته الأصيلة، منفتح على عصره، وعلى جواره المباشر، ولا سيما الأوروبي منه، وبما نحرص عليه من إصلاحات هادفة لترسيخ الحكامة الجيدة، وأوراش هيكلية للتحديث الاقتصادي والتنمية البشرية. ومن جهة ثانية، فإننا نتطلع إلى أن تتقدم أوروبا بدورها نحو المغرب، لتكون خير شريك له، من حيث دعمها الملموس، وإسهامها القوي، في عمل مشترك وجاد، من أجل بلورة المشروع الاستراتيجي للشراكة المتميزة. وذلك وفاء لإشراقات تاريخ مشترك من تحالف حضاراتنا، والتزاما بمتطلبات عصر التكتلات، ورفعا لتحديات العولمة، وتحقيقا لآمال الأجيال الصاعدة، في العيش ضمن فضاء آمن ومزدهر; فضاء مشترك يسوده ما نتقاسمه من التشبث بالمثل السامية للسلم والإخاء والديمقراطية، والتضامن والتقدم، والتصدي لنزوعات الانغلاق والإقصاء والإرهاب، ونصرة القيم المثلى لاحترام كرامة الإنسان، وصون حرمة الأوطان، والتنمية المندمجة للبلدان، في نطاق من الطمأنينة والأمان.
والسلا م عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".