وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في أشغال الندوة الدولية حول موضوع "مستقبل العدالة في القرن الحادي والعشرين"، التي ينظمها المجلس الأعلى اليوم الاربعاء بالرباط احتفاء بالذكرى الخمسينية لتأسيسه.
في ما يلي النص الكامل للرسالة السامية التي تلاها وزير العدل السيد عبد الواحد الراضي:
"الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات الأساتذة قضاة المجلس الأعلى، أصحاب الفضيلة، القضاة والمحامين، وأسرة العدالة، معشر الحضور الكريم، إنه لمن دواعي اعتزازنا أن يخلد المجلس الأعلى الذكرى الخمسينية لتأسيسه، وأن نتوجه اليوم إلى المشاركين في أشغال هذه الندوة الدولية الهامة ،التي يختتم بها المجلس احتفالاته التي امتدت على مدى السنة الجارية ،اعتبارا للمكانة المتميزة التي تحظى بها لدينا أسرة العدالة بصفة عامة، وهيأتها القضائية العليا بصفة خاصة.
لقد كان المجلس الأعلى في مقدمة المؤسسات التي وضع أسسها جدنا المنعم جلالة الملك محمد الخامس في بداية عهد الاستقلال، حرصاً من جلالته، أكرم الله مثواه، على تجسيد السيادة الوطنية والتأسيس لاستقلال القضاء.
ومن هذا المنطلق، تشكل هذه الذكرى محطة تاريخية، ترمز إلى عهد زاخر بالبناء.
بناء الدولة المغربية العصرية، على أسس الملكية الدستورية الديمقراطية والاجتماعية القائمة على توطيد دولة الحق والمؤسسات والالتزام بمبدإ فصل السلط وترسيخ سيادة القانون وإقامة العدل والإنصاف، باعتبارها من وظائف الإمامة العظمى، التي نحن على القيام بها مؤتمنون، وعلى محجتها البيضاء سائرون، ذوداً عن المقدسات والحرمات، وصونا للسيادة والوحدة الوطنية، وسهراً على الأمن والطمأنينة والاستقرار، وحماية للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
ويطيب لنا أن نعرب عن عميق تقديرنا، لما قام به المجلس الأعلى، لتخليد هذا الحدث البارز، في تاريخ القضاء ببلادنا، من احتفالات متسمة بالإتقان. وذلك ضمن أعمال جديرة بالإشادة لما تميزت به من جمع بين تنظيم الندوات القيمة والمتعددة، حول مسار القضاء والعدالة بالمملكة، وبين تنظيم المعارض الجهوية التي اشتملت على الوثائق والمستندات والمؤلفات والإصدارات الجامعة للدراسات والأبحاث القضائية ومختلف السجلات والصور والأفلام.
وهو ما جعل المغاربة قاطبة يستحضرون، بكل افتخار، المنجزات الكبرى التي قام بها جدنا المقدس ووالدنا المنعم، جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، خلد الله في الصالحات أعمالهما، في مجال تشييد قضاء عصري. وذلكم ضمن صرح متجدد، نحن أشد حرصا على إصلاحه وتطويره دعما لأسسه وصيانة لحرمته وتأهيلا لكل مكوناته والإسهام المخلص في ترسيخ دولة الحق وسيادة القانون والنهوض بالتنمية.
ونود التنويه بما قام به المجلس الأعلى من إصدار العديد من المجلدات المتضمنة لأعمال واجتهادات قضاته على امتداد نصف قرن من العطاء والتجديد، وذلك بمختلف اللغات، فضلا عن نشره لأهم أحكامه وكذا للقرارات التي تهم المغرب، الصادرة عن بعض المحاكم العليا الأجنبية، بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بمجلس الاستئناف الشرعي الأعلى.
ومما لا ريب فيه أن هذه الأعمال الجليلة والمتعددة المقاصد تقدم صورة متكاملة عن مسار العدالة في المغرب، وتعتبر مرجعا ثمينا لكل رجال ونساء القضاء والقانون، ولكل باحث عن الاجتهاد القضائي في مجال معين.
أصحاب الفضيلة والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إن تتويج احتفالات المجلس الأعلى بالذكرى الخمسينية لتأسيسه بهذه الندوة الدولية الهامة، حول مستقبل القضاء في القرن الحادي والعشرين، ليندرج ضمن منظورنا الشامل لاستشراف مستقبل العدالة في المغرب وفي غيره من بلدان المعمور.
كما أنه يجسد اهتمامنا الكبير بشؤون العدالة الذي يبرز جليا في الانشغال الدائم لقضاتنا بمواكبة ما تحمله الألفية الثالثة من تحديات على المستوى الدولي.
وذلك في سياق عالمي يعرف تحديات وتغيرات متسارعة، بفعل العوامل الاقتصادية والتجارية ذات التكنولوجيا المتطورة وتنامي نزوعات التطرف والإرهاب وكثافة وتعقد العلاقات الدولية، بفعل اكتساح العولمة بشتى تجلياتها وانعكاساتها، لمختلف مناحي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وما أفرزته من أقضية ومنازعات غير مسبوقة، مما يتطلب اعتماد فقه الواقع، والاجتهاد في التفاعل مع نوازله، ويضاعف أهمية القانون والقضاء في نظر الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، في إيجاد حلول وتسويات عادلة لها. كما أنه يجعل العدالة، وفي طليعتها المجلس الأعلى الموقر، أثقل مسؤولية في مواجهة هذه التحولات.
وإن حضور نخبة من رؤساء المحاكم العليا، من مختلف الدول والقارات، وكذا عدد من الفقهاء والقضاة والمحامين، المغاربة والأجانب المرموقين، لأشغال هذه الندوة الهامة، لمن شأنه الارتقاء بالمناقشات، وتبادل الخبرات والآراء، في فضاءات الفكر القانوني والقضائي والفقهي وإضفاء طابع التألق والإشعاع على أعمالها.
وفي هذا السياق، ننوه بالحضور المتميز للشخصيات المرموقة المشاركة في هذه الندوة، مرحبين بهم في بلدهم الثاني المغرب، المنفتح عبر التاريخ على مختلف الثقافات والحضارات والمؤمن بضرورة التعاون الدولي وتضافر كل الجهود الهادفة إلى ترسيخ السلام والأمن، والعدل والإنصاف بين الأمم وداخل المجتمعات.
وفي هذا الإطار، يندرج حرصنا على أن ينشر المجلس الأعلى، كل ما يتعلق بتاريخنا القضائي والفقهي، وجعله مجالا فسيحا أمام الباحثين والمهتمين من رجال القانون والقضاء، للدراسة والتحليل والتأويل.
ونغتنم هذه المناسبة، لنجدد الإعراب عما نكنه لأسرة العدالة الأثيرة لدى جلالتنا وللقضاة رفيعي الدرجة ولصفوتهم بالمجلس الأعلى، من مختلف الأجيال التي تعاقبت على حمل هذه الأمانة، من تقدير واعتبار.
وإننا حريصون على السير على النهج القويم لأسلافنا الميامين، الذين أقاموا دولة المغرب الموحدة، منذ أزيد من اثني عشر قرنا، على الأساس الصحيح والحصن الحصين للعدل، جاعلين منه أساس الملك. ولذلك يذكر التاريخ للمغرب، ملكا وشعبا، أنه كان يحيط القضاة بما يستحقونه من تبجيل واحترام.
وهو ما نحن، بصفتنا أميرا للمؤمنين، مؤتمنون عليه، وحريصون على ترسيخه، وفاء لعهد البيعة المقدسة، والتزاما بأحكام دستور المملكة. ملتزمين بضمان استقلال القضاء وإصلاحه، لما له من دور حيوي، في توطيد أسس الديمقراطية، وتحقيق الأمن القضائي، وترسيخ الثقة اللازمة لتحفيز الاستثمار، والنهوض بالتنمية.
وكما أكدنا ذلك، وخاصة في خطاب العرش الأخير وافتتاح البرلمان، فإننا حريصون على القيام بإصلاح عميق وشامل لقطاع القضاء، سنتولى الإعلان عن خطوطه العريضة، في المدى القريب، بعون الله وتوفيقه.
وإننا لواثقون من أن أسرة العدالة، وخاصة المجلس الأعلى، باعتباره أعلى هيأة قضائية وطنية، سيشكل قاطرة لهذا الاصلاح المنشود لكونه يضم خيرة قضاة المملكة، في طليعتهم الرئيس الأول للمجلس، والوكيل العام للملك به، المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والتجرد والغيرة على حرمة القضاء واستقلاله.
كما أننا على يقين، بأن وزيرنا في العدل، بما هو معهود فيه من تشبث بثوابت الأمة ومقدساتها والتزام ثابت وإسهام صادق وموصول في توطيد دعائم دولة الحق والقانون، في مختلف المسؤوليات السامية التي تقلدها، لن يدخر جهدا في العمل تحت قيادتنا في حرص على استقلال القضاء، واحترام لمبدإ فصل السلط، من أجل زيادة إشعاع المجلس الأعلى، وتمكينه من الوسائل الضرورية للنهوض بالأمانة الجسيمة الملقاة على عاتقه.
كما أن أسرة القضاء، بصفة عامة، ستعمل على الانخراط بفعالية ومسؤولية في هذا الإصلاح الجذري والمصيري، الذي يعد من شروط صيانة المواطنة الكاملة والتنمية الشاملة، التي ننشدها لوطننا العزيز. غايتنا المثلى أن يظل المجلس، إسما على مسمى : قمة شامخة لصرح قضاء مستقل ونزيه، ومنارة مشعة للاجتهاد المواكب للمستجدات.
داعين أسرته الموقرة، لمضاعفة جهودها الموفقة، لجعله قاطرة لهذا الإصلاح المنشود من أجل تحقيق المزيد من التحديث والعصرنة والتوثيق والشفافية والانفتاح، في التزام دائم بسيادة القانون، ومساواة كل المواطنين أمامه.
وفقكم الله، وسدد خطاكم، وكلل مساعيكم وأعمال هذه الندوة بالنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".