"الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
معشر الضباط وضباط الصف والجنود،
ها أنتم اليوم، والأمة المغربية جمعاء، تخلدون بافتخار وإكبار، الذكرى الخمسينية لتأسيس القوات المسلحة الملكية. هذه الذكرى التي ترسخ الإنجاز العظيم والعمل الرائد لجدنا المقدس، جلالة الملك محمد الخامس، محرر البلاد، الذي وضع الأسس المتينة التي يقوم عليها جيشنا الوطني، ورسم المناهج القويمة، التي يجب أن يسير عليها، جاعلاً منكم جيشاً من الشعب وإلى الشعب، يصون سيادة الوطن، ويحمي وحدته الترابية، ويكون على أهبة الاستعداد، للدفاع عن المقدسات وحرمتها، بكل بسالة وثبات.
وهذا ما عبر عنه، وبجلاء، جدنا المنعم، صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، وهو يزف بشرى الاستقلال لأمته، معتبراً القوات المسلحة الملكية أول مؤسسة وطنية، ورمزا من رموز السيادة، حيث جاء في قوله المولوي السامي :
"في يوم هذا العيد المبارك، الذي هو أول عيد تلوح بشائره على المغرب المستقل، يسرنا أن نثلج صدرك بنبإ تأسيس جيش وطني، تشرف عليه قيادة مغربية صرفة، تعمل تحت أمرنا، وترسم له خططه وأهدافه (...)، مظهر من مظاهر السيادة، ورمز من رموز العزة (...). هذا هو جيش وطنك الحر، وقطب دائرة استقلاله الثابت، وشارة عزه، وحارس ترابه ووحدته، فسيكون في خدمتك، ساهراً على راحتك وسلامتك، دائماً على أهبة لدرء الأخطار عنك (...)".
ومن نفس المنظور، نستحضر باعتزاز ما عرفتموه، كقوات مسلحة ملكية، بجميع مكوناتكم، البرية والجوية والبحرية والدرك الملكي، من تطور على مستوى التأطير والتجهيز، والتدريب والتكوين، خلال عهد والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، الذي جعل من النهوض بمؤسستكم العتيدة في صدارة انشغالاته، حريصا على أن تجمع بين الخدمة العسكرية والإدارية، مع المشاركة في أعمال البناء والتشييد، والانخراط، من خلال التجريدات الموجهة إلى شتى الدول الشقيقة والصديقة، في عمليات حفظ السلام وإيقاف نزيف الحرب، وإرساء قواعد الحق والقانون، في إطار الشرعية الدولية، وتغليب نهج الحوار على أساليب المواجهة.
وإن تخليد هذه الذكرى الخالدة، ليعد بالنسبة لجلالتنا، بصفتنا قائدكم الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، مناسبة سانحة لنقف وقفة تأملية، تضع مؤسستكم في سياقها التاريخي، وإرثها الحضاري العريق، الذي يعود إلى أربعة عشر قرنا، والذي انطلقتم منه وتشبعتم بقيمه. وهي فرصة أيضا للتذكير بأبعادها الوطنية، المرتبطة بذكرى الاستقلال، التي تضعها ضمن منظومتها الاجتماعية، في صلب التأمل والتفكير. ومن هذا المنطلق، أبينا إلا أن نصدر أوامرنا السامية لتخليد هذه الذكرى الخمسينية لتأسيس القوات المسلحة الملكية، تعبيراً لكم عن سابغ عطفنا ورضانا، وتقديراً لما تحمله من معان وتجليات مختلفة، تلتقي في أبعادها عند "الجيش في خدمة الوطن". وهو الشعار الذي اختارته جلالتنا لهذه الذكرى، حينما وضعنا برنامجا محكما ومتكاملا للاحتفاء بها، وجعلناه تحت رعايتنا الملكية السامية.
معشر الضباط وضباط الصف والجنود،
نسجل بعميق الارتياح أن الاحتفاء بالذكرى الخمسينية لتأسيس القوات المسلحة الملكية، جاء مستجيباً للأهداف التي رسمناها. وذلك لأن الاحتفالية طبقاً لتعليماتنا السامية، كانت متكاملة الجوانب، حيث أبرزت الأبعاد التاريخية والحضارية للقوات المسلحة الملكية. كما ساهمت في التعريف بالأعمال الاجتماعية والإنسانية النبيلة التي تقومون بها، على المستوى الوطني والدولي. وذلك من خلال ملتقيات علمية، وأيام دراسية أكاديمية، فتحت أمامكم آفاقاً أخرى للبحث العلمي، وأكدت الانفتاح على الفضاء الجامعي.
وقد حرصنا على أن نشرك في هذا الاحتفال فعاليات المجتمع المدني، من خلال تنظيم الأبواب المفتوحة في مختلف أرجاء المملكة، حيث لقيت إقبالاً كبيرا من لدن المواطنين، مما أثلج صدرنا، وحظي برضانا.
وبنفس العناية، وانخراطاً في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ولإعطاء مضمون ملموس للتعاون جنوب-جنوب، كان إشرافنا وتتبعنا عن قرب، وبسابغ الرضى، للبعثات الطبية العسكرية، التي جابت أرجاء الوطن وأقطارا شقيقة وصديقة، لتقدم خدمات إنسانية نافعة للعديد من الفئات المحتاجة.
وإنه لمن دواعي اعتزازنا ما حظي به الجانب الثقافي من مكانة بارزة، وإشعاع كبير، ضمن هذه الذكرى، بتنظيم معارض حول التاريخ العسكري المشترك، في أهم حواضر المغرب، بمشاركة دول أجنبية صديقة، نقتسم معها محطات من تاريخنا. فكانت شهادة صادقة وقوية وثابتة، على أن المغرب كان وما يزال ملتقى للحضارات، وأرضاً ذات قابلية على الدوام، للأخذ والعطاء. وهي خصوصية مميزة نابعة من إيماننا العميق بأن الحضارات تنمو وتكتمل بتفاعلها المثمر، وتلاقحها المستمر، وأن الثقافة لا تقف أمام امتدادها حدود.
وقد أبينا إلا أن يتوج الاحتفاء بهذه الذكرى الخمسينية، باستعراض عسكري وطني، يستحضر يوماً آخر من تاريخنا العسكري المعاصر، في تنظيم محكم، ومظهر يبعث على الفخار، حريصين على أن ترأسه جلالتنا بصفتنا القائد الأعلى، ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية. ولقد أبرزتم من خلاله، مختلف المحطات التي مررتم بها، مجسدين فيه قوة الانضباط، ورسوخ القيم العسكرية العليا، المتأتية من تأطيركم المحكم، وحسن قيادتكم.
وهكذا، كانت هذه الذكرى المجيدة مثلما أردناها، احتفاء وبناء وإبداعا وعطاء، ومشاركة في أعمال الإصلاح والتشييد، وانخراطاً في صنع مستقبل واعد لوطننا العزيز.
معشر الضباط وضباط الصف والجنود،
إذا كنتم قد أبنتم على الاستماتة الدائمة، في الدفاع عن المقدسات، والذود عن وحدة الوطن، مرابطين بكل يقظة وعزم، في شتى الثغور، ساهرين على حماية بيضتها، فإنكم بتشبثكم الراسخ بقيمكم العليا، قد رسمتم بقدرات عالية، صورة مثالية تتميز بالقيام بالواجب الوطني، والمشاركة الفعالة في الإسعاف والإنقاذ، ومناهضة كل ما قد يمس الوطن من آفات وكوارث طبيعية وغيرها، وكل ذلك بمهارة وإتقان، وتدبير عقلاني للطاقات والموارد، وتحضير منضبط لاستباق الأحداث.
كما أحسنتم المشاركة على الصعيد الدولي، في عمليات حفظ السلام، في مختلف الجبهات، في إطار الشرعية الدولية، سيراً على سنة حميدة، توارثناها وسرنا على نهجها القويم على توالي الأجيال.
معشر الضباط وضباط الصف والجنود،
إن تخليد هذه الذكرى المجيدة، مناسبة للإشادة بالمنجزات التي حققتموها على مدى نصف قرن. وهي في الوقت نفسه فرصة سانحة لندعوكم لولوج الخمسينية المقبلة، مسلحين بتكوين عسكري محكم، يشمل جميع ميادين المعرفة، وينفتح على كل الاختصاصات. فعليكم أن تتشبثوا بمقومات التحديث، وجودة التأطير، والتحكم في أساليب التخطيط، والتحضير والبرمجة داخل المؤسسات العسكرية، التكوينية والعليا ؛ لتتمكنوا أكثر من استيعاب ما يعرفه المجتمع الدولي من تغييرات وتحولات متسارعة، وما تعيشه منظومته، من تداخلات وتعقيدات متزايدة.
ولنا كامل اليقين، أنكم قواتنا المسلحة الملكية، على علم وإدراك بهذه التحولات، وعلى استعداد تام للانخراط في متطلبات العصر، بكل تبصر وحنكة. فعليكم بترشيد الإمكانات المادية، والاستفادة من الطاقات البشرية، للتمكن من مد قواتنا المسلحة الملكية، بكل ما يمكنها من تطوير الكفاءات، ودقة الاختصاصات في المجال العلمي والتكنولوجي، لترقى إلى مصاف القوات المتطورة.
وستجدون قائدكم الأعلى ساهرا على توفير كل أسباب التقدم والمناعة، والنهوض بكافة مكونات قواتنا المسلحة العتيدة.
معشر الضباط وضباط الصف والجنود،
إن ارتباط تأسيس القوات المسلحة الملكية ببزوغ فجر الاستقلال، ليعد منبعا صافيا لمعاني المواطنة، ورصيدا لا ينفد من القيم والأخلاق المثلى، التي شكلت على الدوام مصدر قوتكم، ومبعث فخركم، والافتخار بكم، ومرجع اعتزاز المغاربة قاطبة بالتضحيات الجسيمة التي بذلتموها، بكل تفان وإخلاص ونكران ذات، على مدى خمسين سنة الماضية، خدمة للوطن والذود عن سيادته وحوزته الترابية. فعليكم أن تظلوا، رعاكم الله، أوفياء لهذه المبادئ والأخلاق العليا، فخورين بخدمة وطنكم.
والله تعالى نسأل أن يجعل من هذا اليوم الأغر، مناسبة مباركة عليكم وعلى الشعب المغربي، وأن يمطر على شهدائنا الأبرار، الذين سقطوا في ساحة الشرف، شآبيب رحمته وغفرانه، ويسكنهم فسيح جنانه، ليبقى الوطن مصون السيادة والوحدة الوطنية والترابية، محفوظ الكرامة، موفور الأمن، مهيب الجانب.
وفقكم الله، وسدد خطاكم، وشد عزمكم، وأبقاكم حاملين لمشعل السلام، في الطريق القويم والمسلك السليم، وجعلكم على الدوام، في مستوى مهمتكم النبيلة، للدفاع عن قيمنا، مخلصين لشعاركم الخالد : الله - الوطن – الملك. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته"